عام مضى
ما أسرع انقضاء العام الهجري بأيامه وشهوره، كيف مضى بهذه السرعة؟ كنا بالأمس نستقبله واليوم نودعه، هل ذهبت بركة الأوقات فلم نشعر بها؟ مضى عام كامل من أعمارنا، وانسلخ بثوانيه ودقائقه وساعاته وأيامه، مضى وكأنه شهر واحد، مضى بحلوه ومره، بأفراحه وأحزانه، بسروره وهمومه، وبما فيه من اللذائذ والآلام، عبثَ فيه العابثون، وتلذذ فيه بالشهوات اللاهون، وأجاد فيه الصالحون، وأخلص فيه العاملون، فسوف يرى كلٌ بضاعتَه يوم التنادِ، قالها تعالى: (((وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يُرى، ثم يُجزاه الجزاء الأوفى))).
مضى عام بكل ما فيه من إشارات تنبيه وتحذير، أوراق التقويم ونحن نُمزق أوراقها يومياً إشارة تنبيه، دقات الساعة وهي تقول لنا إن الحياة دقائق وثواني إشارة تنبيه، هلال الشهر في نموه واكتماله بدراً ثم ذبوله ونحوله إشارة تنبيه، فصول السنة وما بها من تنوعٍ فيه عبرةٌ لمن يعتبر، كل ذلك إشارات تنبيه، تسألنا ماذا قدمنا في عامنا من أعمال صالحة ندخرها ليوم التلاقِ، والحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُذكرنا بالوقفة أمام المولى: "لا تزول قدما عبد يوم القيامـة حتى يُسـأل عن أربع: عن عمره فيمَ أفناه، وعن شـبابـه فيم أبلاه، وعن مالـه من أين اكتسـبـه وفيمَ أنفقـه، وعن علمـه ماذا عمل بـه"، فسوف يسألنا الخالق عز وجل يوم الحشر عن أعمارنا، هل أفنيناها في خدمة دينه، أم أفنيناها في الراحة والغفلة والجدال، وسيسألنا عن دعوتنا هل كنا من العاملين لها والداعين إليها، وسيسألنا سبحانه وتعالى عن أجسامنا هل أبليناها في الطاعة والعبادة والحركة بدينه، أم أبليناها في اللهو واللعب، سنة كاملة مضت، كم عملنا فيها من أعمال قد نسيناها، لكنها عند الله محفوظة، وفي صحائف الأعمال مرصودة، وغداً نوفاها: (((يوم توفى كل نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون))).
وقفة مع النفس
حدث كوني هام، يقع مع وداع شمس آخر يوم من أيام ذي الحجة، إنه انفتاح بوابة العام الهجري الجديد، حدث يحتاج منا إلى وقفة تأمل قبل وقوعه، هي وقفة جادة يسأل كل منا نفسه، مادام الحساب على مثقال ذرة، وعلى كل لفظ، وعلى ما يُحيك في القلب، يقف الأخ مع نفسه وقفة صدق، فالصدق نجاة، وليحاسبها فهو أرفق بها من يوم الحساب، قالها الحسن البصري: "ابنَ آدم إنك تغدو أو تروحُ في طلبِ الأربَاح؛ فليكن همّك نفْسَك؛ فإنك لن تربح مِثْلها أبداً". من أجل ذلك، نحتاج مع نهاية العام وبداية الجديد إلى وقفة محاسبة، يقول عنها ابن القيم رحمه الله: "المحاسبة أن يميز العبد بين ما له وما عليه فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه؛ لأنه مسافرٌ سَفَرَ من لا يعود" ، هي وقفة نُجيب فيها عن أسئلة كثيرة تدور، تحتاج منا إلى إجابات، كيف قضينا عامنا؟ وفيمَ صرفنا أوقاته؟ وكيف كانت علاقتنا بربنا؟ هل حافظنا على فرائضه واجتنبنا زواجره؟ هل اتقينا الله في بيوتنا ومجتمعنا؟ هل راقبنا الله في عملنا وفي كل شؤوننا؟ هل أخلصنا له في أعمالنا؟ وهل فكرنا أن نجٌِد في حركاتنا؟ وهل رفعنا راية أمتنا؟ وماذا قدمنا لهذا الدين؟ كم أعطيناه من أوقاتنا؟ كم شخصاً حببناه في الله وفي دعوته؟ وهل انضبطت حركتنا وأعمالنا وأقوالنا وكتاباتنا بضوابط الدعوة؟ وكم مرة نصرنا إخواننا المستضعفين في الأرض والمعتقلين ظلماً وزوراً؟ وكم حافظنا على أداء الصلوات جماعة في المسجد؟ ما نصيب كتاب الله تعالى من القراءة والتدبر؟ كم مرة كنا نختم في كل شهر؟ أم لم نقرأه إلا في رمضان؟ هل حفظنا منه شيئاً طوال هذا العام؟ أكان همنا من دنيانا لقمة نأكلها، وشربة نشربها، ولباساً نلبسه، أو مكانة نبحث عنها، أو جاهاً نتباهى به، وهل كان همنا إضاعة وقتنا في لهوٍ مباح أو غير مباح؟ أم كان همنا معالي الأمور والدرجات العلى؟ أكنا ممن يقول ما لا يفعل؟ أم ممن يُعطي القدوة من نفسه؟ وهل وهل وهل؟ ماذا أردنا بكل ذلك، ومن أردنا؟ هل أردنا الله والدار الآخرة أم الصيت والسمعة وحب محمدة الناس؟ هي وقفة من أجل مراجعة الحسابات، وتعديل المسار، وإصلاح النية، وتجديد العهد، وشحذ الهمة.
عن عبدالله بن عباس وعمرو بن ميمون: قال رسـول الله صلى الله عليـه وسـلم: "اغتنم خمسـاً قبل خمـس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سـقمك، وفراغك قبل شـغلك، وشـبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك.